أدب فلسطين: من العصر الإسلاميّ إلى النهضة الحديثة | أرشيف

الشاعر الفلسطينيّ إبراهيم طوقان (1905 - 1941)

 

العنوان الأصليّ: «الحياة الأدبيّة في فلسطين».

المصدر: «مجلّة الأديب».

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1945.

الكاتب: إسحق موسى الحسيني.

 


 

أَظْهَر مساوئ التاريخ القديم اعتماده في تاريخ الحياة العامّة على الحياة السياسيّة بأضيق معانيها. لذلك لا يجد المُطالع في كتب التاريخ سوى أشباح لأمم سالفة؛ فمعالم الأمم، أو أعراقها النابضة بالحياة، تكاد تكون مخفيّة عن الأنظار.

قد يكون من التعسّف محاكمة المؤرّخين المتقدّمين بالمقاييس الحديثة؛ فقد فهموا التاريخ قديمًا على أنّه تاريخ الخلفاء والملوك والأمراء، ويفهمه المُحْدَثون اليوم على أنّه ظاهرات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وأدبيّة تشمل الحكّام والمحكومين على حدّ السواء. والعنصر السياسيّ إنّما هو خيط من جملة خيوط يُصْنَع منها هذا النسيج الّذي يسمّى تاريخًا.

على ذلك، فإنّه من أشقّ الأمور على مؤرّخ الحياة الأدبيّة اليوم أن يعود إلى تلك العصور القديمة ليبحث عن خيوط تصلح لأن يصنع منها نسيجًا عامًّا جديرًا بالعرض.

 

أعلام فلسطين في الأدب 

قد وَهِم بعض الناس أنّ هذا القطر الصغير بمساحته وعدد سكّانه، الكبير بمقامه الدينيّ والسياسيّ، لم يُنْتِجْ أدبًا في العصور الخوالي، وهو وهم تنقضه طبيعة الحياة بقدر ما ينقضه الواقع؛ فمنذ الفتح الإسلاميّ إلى يومنا هذا والأدباء يتعاقبون بلا انقطاع، لكن هناك ثلاث حقائق يجب أن تذكر: الأولى، أنّ فلسطين لم تكن وحدة مستقلّة في عصر من العصور، بل كانت جزءًا من تلك الرقعة الواسعة الّتي تعرف بـ «ديار العرب»، ولم يستقلّ بحكمها أمير كما حدث في بعض الأقطار، فهي إمّا متبوعة وإمّا تابعة.

الثانية أنّها لم تكن مركزًا لخليفة أو سلطان لمدّة طويلة من الزمن حتّى يجذبا إليها الشعراء والكُتّاب، أو يحفظا المواهب الأدبيّة في بيئتها، ويحولا دون انتقالها إلى بيئات أخرى. وفي فترتين قصيرتين، كانت فلسطين، أو على الأصحّ – الرملة وبيت المقدس – عاصمتين لديار العرب كلّها. لكنّ تينك الفترتين كانتا أقصر من أن تتيحا للحياة الأدبيّة أن تزدهر في فلسطين نفسها. أمّا الثالثة فهي إنّ البلاد لم تشتهر بالرخاء الاقتصاديّ، أو بالترف الّذي نعمت به العراق والشام ومصر والأندلس. فليس عجيبًا بعد هذا أن يتوجّه أبناؤها إلى مراكز السلطان والرخاء، يتلمّسون الدواعي لفتق المواهب.

فكشاجم الرمليّ (المتوفّى في حدود سنة 350 هجريّة) تنقّل بين الرملة وحلب وبغداد والقاهرة، وأبو إسحق الغزّي (المتوفّى سنة 524 هجريّة) جاب بلاد المشرق متنقّلًا بين دمشق وبغداد وخراسان وكرمان ومات في بلخ. والقاضي الفاضل البيسانيّ العسقلانيّ (المتوفّى سنة 596 هجريّة)، استقرّ أكثر عمره في القاهرة. وهكذا شأن من وليهم من الأعلام، كان حجر العسقلانيّ، وصلاح الدين خليل الصفديّ، وغرس الدين الخليليّ، ومرعي الكرميّ، وعبد الغنيّ النابلسيّ، وروحي الخالدي المقدسيّ.

ساهم هؤلاء مساهمة كبيرة في التراث الأدبيّ العامّ؛ فكشاجم الرمليّ من شعراء العرب المتميّزين في وصف الطبيعة، وأبو إسحاق الغزّيّ ذو نفس شعريّ رفيع يسمو به في كثير من الأحيان حتّى يلحق بالمتنبّيّ، والقاضي الفاضل البستانيّ ناثر من الطبقة الأولى وذو مذهب خاصّ في الأدب العربيّ، وحسبه فخرًا أنّه وطّد سلطان صلاح الدين بقلمه كما وطّده المجاهدون بسيوفهم، وهو شاعر أيضًا، وإن كان شعره أقلّ شهرة من نثره. وصلاح الدين خليل الصفديّ ساهم في تكوين جانب من التراث الأدبيّ المعروف بـ «التراجم»، علاوة على دراساته اللغويّة والأدبيّة.

أمّا الشعراء والأدباء الّذين لم يغادروا بيئتهم فكثرة لا تُحْصى، لكنّنا لا نجد بينهم مَنْ يلحق بأولئك الأعلام الّذين آثروا الرحلة على البقاء، واثقين بأنفسهم، معتزّين بأدبهم، وجلّهم من طبقة الفقهاء الّذين كانا يتملّحون بالأدب، ويؤدّون عملًا محدودًا في المدارس أو المساجد أو القضاء، لغلبة الدين على النفوس ومقام ’البلاد المقدّسة‘.

 

النهضة الحديثة: في النثر 

بدأت النهضة الحديثة متأخّرة في فلسطين، ويتظرّف بعضهم فيؤرّخها من سنة 1939، لكنّ الواقع أنّ التربة الفلسطينيّة تحتوي في بطنها على بذور كريمة سيكون لها شأن أيّ شأن. يوم تنقشع تلك السحب الكثيفة من سماء هذا القطر العربيّ العزيز، سيصل إلى أجواء البلاد العربيّة أريج ذكيّ فيه نفحات الفكر النيّر والشعور الرقيق والذوق الأنيق.

لقد عاش الشاعر المرحوم إبراهيم طوقان في قفص، لكنّ تغريده وصل الآذان في كلّ قطر عربيّ، ويعيش اليوم كما عاش إبراهيم عشرات من الشعراء والكتّاب تُلزمهم ظروف الحياة – وما أقساها وأكثرها – أن يؤثروا العافية، لكنّهم لم يكسروا مغازلهم ولم يقنطوا من رحمة الله. وإن دلّ تستّرهم على شيء فإنّما يدلّ على أنّ تحت الرماد وميض نار.

والأدب المنثور الّذي ظهر في ربع القرن الأخير هو أدب ’مقالات‘ أكثر منه أدب ’مؤلّفات‘، ونكاد لا نجد بين جميع الكتب كتابًا أدبيًّا فصّل فكرة أو مذهبًا، أو على الأقلّ أرّخ جانبًا من الحياة الأدبيّة في عصر من العصور، أو حلّل أدب عَلَم من أعلام الأدب في البلاد، وكان ذا وحدة متماسكة الأجزاء.

وأدب المقالة هذا خليط من نزعات متباينة، فنزعة إلى القديم وأخرى إلى الجديد، ونزعة إلى النقد اللغويّ وأخرى إلى النقد الاجتماعيّ الرفيق، وبين هذا وذاك نفحات أدبيّة أصيلة تعبّر عن مرارة في أعماق النفس أو حزن لاذع لفقد زوج.

هذا الأدب بكامله أبعد من أن يمثّل ’مدارس‘ أو نزعات أدبيّة أو اجتماعيّة عامّة؛ فهو أدب فرديّ يتأثّر بحادثة ’فرديّة‘ ويعبّر عن عاطفة ’فرديّة‘ ويمثّل أسلوبًا ’فرديًّا‘، وربّما كان فقدان الحلقات الأدبيّة، أو التوجيه الأدبيّ، السبب الرئيسيّ لذلك، ولعلّ المحنة الّتي تجتازها البلاد علّة العلل جميعًا.

 

في الشعر

أمّا الشعر الّذي سما به إبراهيم طوقان، بفنّه وجرأته واستقلاله، إلى مرتبة غير مسبوقة في تاريخ البلاد الأدبيّ الحديث، فموزّع اليوم بين طائفة من شعراء الشباب، وتغلب عليه مسحة الجدّ والحزن، وهي من آثار الاتّجاه الصادق نحو الشعر الحقّ. كلّ مسحة خلافها من آثار الصنعة؛ فالحياة الاجتماعيّة في البلاد لم تتطوّر حتّى تصبح ملهمة للشعراء فنونًا جديدة من الشعر الاجتماعيّ الحيّ، والشعر العربيّ الحديث عامّة، أبعد من أن يبلغ ما بلغه الشعر القديم من استهواء القلوب، ولا بدّ له قبل أن يبلغ ذلك من التجارب الشخصيّة ومن الصلة الوثيقة بالمجتمع، ومن صدق الشعور واتّقاد الذهن، وأخيرًا من الحرّيّة الواسعة وفراغ البال. وربّما كانت بيئتنا أقلّ البيئات حظوة بهذه العوامل الأخيرة، لذلك لا نعجب إن استأثر بأمارة الشعر قطر عربيّ آخر.

هناك ظاهرة عامّة تبشّر بالخير في مستقبل الأدب، وهي أنّ النشء الحديث يتّجه اليوم نحو ثقافة عميقة توسّع أفقه وتنوّر فكره وترهف حسّه؛ فهو ينهل من الأدب الغربيّ نهل الصديان، وإن تيسّر لهذا النشء أن يوجّه للأدب العربيّ القديم ما يستحقّ من عناية، وأن يعلم أنّه بمنزلة الأساس في بنائه الأدبيّ، وإن تطوّرت الحياة الاجتماعيّة في وقت نضوج مواهبه الأدبيّة، حقّ لنا أن نشهد أدبًا يجعل كلّ أدب ظهر في ربع القرن الأخير في مرتبة البدايات الأوّليّة. وإنّا لنتمنّى على الله أن يبزّ اللاحق السابق، وأن ينسخ الحديث القديم، كي نطمئن إلى أنّ حياتنا وأدبنا سائران قدمًا في طريق الرقيّ والازدهار.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.